السلايد شو مقالات

نزيه ابو نضال ..ناقش الحبر على كف القمر

بقلم ميسر السردية

كنت أطوي كتاب مذكرات نزيه أبو نضال والتي حملت عنوان ” من أوراق ثورة مغدورة” وأذهب كي أبحث عن بعض الأسماء في عالم “جوجل” كي أرى صور من جاء على ذكرهم في تلك المذكرات أو الإسترجاعات التي جاءت إثر لقاء أجراه معه الدكتور الباحث زياد منى رحمه الله , حيث أخذت المذكرات عدة مسارب , مابين الشخصي الذي لابد منه، كونه يفضي إلى العام حيث تشكل وتكون وعي الرجل في مراحله العمرية المختلفة, حتي يبدو أنه لم يعش حياة وإنما حيوات كثيرة , من الإرهاصات الأولى , وكما قال في مستهل مذكراته : الإنسان إبن شرطه الثقافي والإجتماعي ومكوناته المعرفية والذهنية والنفسية , إنتقالاً إلى المرحلة النضالية,فالتنقل بين العواصم والمدن والمحطات, مروراً بالإنجازات علي مستوى الفكر والتأليف والتنظير والكتابة في عشرات الصحف والمجلات العربية التي توجت بمجموعات من الكتب في شتى ميادين الثقافة والأدب والدراسة والسياسية التي أثرت المكتبة العربية عامة والأردنية خاصة.
الطفل أمام بوابة الحياة
لا يستطيع توصيف الظرف الإقتصادي لعائلته تحديداً,طبقة متوسطة أقرب إلى الفقر,و قد تكون هذه طبيعة الحياة آنذاك, فالفقر والغنى يرتبط بشرطه الزماني والمكاني , وهكذا كان الوالد يمتلك دكاناً صغيراً وبعض البيوت البائسة للإيجار , الدكان الذي أفلس غير ذي مرة بسبب المستلزمات المعيشية لعائلة تتكون من سبعة أفواه بالإضافة للوالدين.
فرضت مدرسة الطائفة “اللاتين” رسوما مدرسية علي التلاميذ, كان القرار جديدا والتي تعجز عائلة الطفل غطاس جميل صويص عن توفيره, مما أضطر الوالدة الذهاب إلى خوري الطائفة والطلب منه إعفاء جميل من الرسوم , ولرفض طلب الوالدة التحق جميل بمدرسة العباسية الحكومية في الخمسينيات وهناك بدأت حياة جديدة أيضا.
التكوين الثقافي والوجداني الأول
عن تكوينه الثقافي ونهم القراءات الأولى , يقول : صحوت على الدنيا في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات, وجدت في بيتنا مكتبة ورثها أخي عن خالي, طورها من دخله الزهيد كميكانيكي.
راح الطفل يقرأ كل ما يقع تحت يده,قصصاً, شعراً, روايات بوليسية, كتب لكتاب مهمين أو مجهولين.
كذلك مكتبة مدرسة العباسية , قرأت ما وجدت من كتب متواضعة, لاحقا تعرفت على مكتبة قرب الجامع الحسيني لشخص أسمه “روحي” كنت أستأجر من عنده الكتاب بتعريفه” نصف قرش, أحيانا أنهي قراءة الكتاب قبل وصول البيت فأعود لأستأجر آخر وآخر.
عن طبيعة القراءة وحفرها في ذهنيته، يذكر أن قصص المغامرات والبوليسيات صاغت له منظومة من القيم والاخلاقيات الرومانسية وعلمته معنى الصداقة الحميمة, تلك الصداقات التي جمعته مع اصدقاء العمر مثل نزيه خوري الذي إستعار أُسمه كأسم حركي لاحقا , ومنيب حداد وفخري قعوار وعاطف قعوار وجهاد الكبيسي و غيرهم من الأصدقاء في كافة المراحل الحياتية.
نمو المراهق وإتساع إطار الصورة
ترافق النمو الثقافي مع نمو المراهقة,حيث تطورت الإطلاعات على الأدب العربي العالمي, نجيب محفوظ, إحسان عبدالقدوس,عبدالله الشرقاوي ,ديستوفسكي, تشيخوف, تولستوي,ديكنز, شتاينبك, جاك لندن , ويسمي رويات مثل ذهب مع الريح لمارغريت ميتشل ,البؤساء لهوغو, والأم لجوركي , لينتقل لخوض صفحات الأدب الوجودي مع سارتر واللامنتمي مع كولن ولسون والعبثي مع كامو , أما الكتاب الذي شكل مرحلة مفصلية في حياته، فقد كان كتاب قصة الحضارة ل”وول ديورانت” حيث يقول أبو نضال أنه بعد قراءة هذا الكتاب غادر الفكر اللاهوتي إلي الفكر العلماني, إذ اكتشف بأن كل تاريخ الأديان مترابط متشابه ,وبعد ذلك الكتاب أصبح حراً خارج المألوف, وخارج المسلمات
قادراً علي بلورة ما يقتنع به من قرارات.
المرة الاولى التي شارك فيها أبو نضال في مظاهرة كانت في المظاهرات التي خرجت آنذاك ضد حلف بغداد, وكان لا يتجاوز الرابعة عشر من العمر, حيث طلب منهم أساتذة المدرسة العباسية الذين كانت غالبيتهم مؤدلجين وعقائديين النزول إلى الشارع والهتاف بشعارت بالكاد يفهمون معانيها.
قد تكون تلك المظاهرات الطاقة الأولى التي أدخلته مفهوم العمل العام ولكن الأمثلة والدروس لم تتوقف هناك, يقول لقد استأجر عندنا شخص شيوعي,كان مطلوبا للجهات الأمنية, وكلما جاءوا يسألون عنه كانت تخرج لهم أمي وتتظاهر انها لا تدي أين هو؟ بل تريده لأنه لم يدفع أجرة الغرفة علما أنه في الداخل .
قصة أخرى يرويها في ذات السياق تتعلق بشقيق جارتهم الذي كان أيضاً مختبئاً عند أخته ومعه مناشير سياسية, وخشية إنكشاف أمره , خبأوا المناشير عند أمي والتي وضعتها في صرة من الصُرر.

لا يُستبعد أن الفتى قارن مابين شهامة أمه ورواية الأم لجوركي أيضا, لقد وجدوا أنفسهم كما يصف كجزء من دائرة الصراع , مزيج من المغامرة والاستعداد للتضحية والنخوة.
تطورت الأحداث وتراكمت الصور الذهنية إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, وأسوة بالعواصم والمدن العربية خرج الأردنيون في مظاهرات منددة بالعدوان , ومن بين الناس كان أبو نضال ورفاقه الطلبة الذين قادهم حماسهم بالتوجه إلي السفارة المصرية في عمان رغبة في التطوع والذهاب للدفاع عن مصر.

*لنضع النقاط على الحروف*
بعدما إنتقل أبو نضال إلى مدرسة الأحنف بن قيس ,إنضم عن طريق زميل دراسة له إلى حركة القوميين العرب, فقد كانت تلك فترة صعود الناصرية ,وفي هذه المرحلة أيضاً بدأ يتطور فكرياً وسياسياً ويميل إلى الفكر الماركسي ولكن ليس بمعنى الانخراط التنظيمي, كذلك بدأ رغم صغر سنه في الكتابة، و حصوله على المركز الأول في اللغة العربية في الفرع الأدبي الذي خالف بدراسته رغبة والده الذي كان يود أن يدرس ابنه الطب ,لقد كان حلم السفر والتعلم في القاهرة يراوده , حيث دنيا طه حسين, ونجيب محفوظ, المسارح والسينما والثقافة والأدب .
أرسل لأخيه الذي يعمل ميكانيكي في الكويت يطلعه على رغبته بالالتحاق بجامعة القاهرة, لكن الأخ طلب منه الدراسة في الجامعة الأردنية لعدم قدرته تحمل تكاليف مصاريف الغربة والقاهرة ,فما كان من العنيد صاحبنا بعدما شعر بالإحباط أن سطر لأخيه رسالة عنوانها” لنضع النقاط على الحروف” أخبره فيها أنه سيعمل ويتحمل مصاريف نفسه وسيدرس عن طريق المراسلة , وبالفعل ذهب للعمل في محل حدادة,لتنقلب بعدها الأمور لصالحه وكأن القدر يرسم له طريقاً آخر, فقد قرأ صديق لأخيه الرساله وتأثر بها وقرر أن يتحمل مصاريف الشاب , فطلب منه الأخ الإستعداد للسفر حيث الحلم.
في القاهرة التي سكن فيها مع أصدقائه، فخري قعوار وهشام يانس”فنان” وهشام هنيدي “فنان” وغيرهم راح يسعى للقاء من قرأ وسمع عنهم فكان مقهى ريش الشهير،محطته حيث أجرى لقاء صحفي مع نجيب محفوظ ونشره في الصحافة،وتشكلت علاقات صداقة عميقة مع أدباء مصر كالروائي جمال الغيطاني والشاعر محمد إبراهيم أبو سنه، والروائي الأردني غالب هلسه.
في القاهرة التي تتلمذ على يد كبار أستاذتها مثل عبدالحميد يونس وشكري عياد، واظب نزيه على إرتياد مختلف أصناف المسارح ومتابعة السينما ودارالأوبرا وحضور محاضرات الأدب والنقد والفكر والمعارض الفنية، بالإضافة لثروة كتب سور الأزبكية، وكل ذلك طور كثير في تخمير تفكير وتوجه أبو نضال.
*نكسة حزيران نقطة وسطر جد*
لم تغير نكسة حزيران 1967مسار حياة أبو نضال وحده, بل طال تأثيرها كل مجالات حياة الشعوب العربية في كافة المجالات وحتى الفنية والثقافية والأدبية منها, بل ويُرجع البعض ظهور التزمت الديني والانكسار النفسي العام كنتيجة طبيعية لها. وقد تكون الأجيال الشابة هي الأكثر تغيرا وتاثرا آنذاك.
أثناء تلك الفجيعة العربية كان أبو نضال في السنة الدراسية الأخيرة, إلا أنه بدا يبحث عن عمل ليكفيه حاجاته إسوة بغيرة مما أصابتهم الصدمة النفسية ,يقول سمعت عن منظمة فتح فرحت أبحث عن خيط , فقررت السفر إلى دمشق للإنخراط في صفوفها, ولعدم توفر ثمن التذكرة, باع عفشه المتواضع ومقتنياته الشخصية وحصل على تذكرة ذهاب بلا عودة, تاركا خلفه كل أحلامه القديمة.
في فترة التحاقه بميادين النضال الذي أختار له أسمه الحركي الذي عُرف به حتى اليوم” نزيه أبو نضال” تنقل بين عدد من معسكرات التدريب والإعداد وتنقل بين عدد من العواصم العربية التي أحتضنت تلك المعسكرات, ويسرد في مذكراته تفاصيل كثيرة يمتزج فيها الأمل باليأس في مرات كثيرة ,تعلو النبرة وتنخفض مابين المحطات والمناظرات والرغبات والمستطاع وعدم الممكن مرات أخرى, حيث يقرأ من يقلب الأنات مابين الأسطر عشرات أسماء لمن عرفنا أو سمعنا عنهم من الشهداء أو من بقوا على قيد الحياة .
وتعليقاً على تجربته النضالية يقول : اكتشفت لاحقاً أن الهزائم الكبرى لا تصنعها الضربات الكبرى, ولا حتى الأخطاء الكبرى, بل الممارسات اليومية, والتفاصيل الصغيرة حيث تكمن الشياطين وأسراب السوس غير المنظور.
*جولة حول الشرق*
في حياة النضال تلك، دخل أبو نضال في كثير من مفاصل العمل والمهمات ويستطيع الراغب قراءة مذكراته للإطلاع أكثر علي تجربته الغنيه , من بين هاتيك المفاصل السياسة والتثقيف والإعلام بكافة صنوفه إضافة للمشاركة في عدد من الوفود والزيارات لدول كانت لها تجارب نضالية ,حيث سافر في رحلة عمل إلى الصين التي التقى فيها رئيس الوزراء الشهير شوان لاي الذي أطلعهم على تجربة الثورة الثقافية في جامعة بكين ,كما زار بيت الزعيم الكبير هوشي منه في فيتنام وشاهد تجسيد مدهش لوقائع معركة ديان بيان فو التي قادها الجنرال جياب , يقول كانت تجربة فيتنام الأغنى في حياتي, وكذلك زار كوريا الشماليه والتقى بالزعيم “كيم إل سُنغ” الذي سمع عنه مقولته ” إذا كُسرت لمرة واحدة أنتهى أمرك” , والتقى أيضاً بالزعيمة الهندية أنديرا غاندي التي أجرى معها لقاء صحفي مطولا نشر جزء منه لاحقا في جريدة اللواء اللبنانية . لم تنتهي محطاته هناك , فقد جاب أيضا كوبا واسبانيا وألمانيا الشرقية وقتها وفرنسا وروما .
النشاط الثقافي والإعلامي الصحفي والسينما
شارك أبو نضال في عدد من الندوات والمؤتمرات النقدية والثقافية حول العالم, ترافق ذلك مع مواصلة الكتابة في عدد من الصحف والمجلات العربية , منها على سبيل المثال لا الحصر, السفير,اللواء, الهدف,البلاغ,الدستور اللبنانية, إلى الامام, شوؤن فلسطينية, قضايا عربية, دراسات عربية, المصير الديمقراطي,المعرفة , الموقف الادبي, الكاتب الفلسطيني ..الخ
بالإضافة لعمله في الإذاعات منذ البديات كإذاعة زمزم أولا ثم مسؤولا عن إذاعة صوت لبنان العربي وإذاعة صوت فلسطين, ساهم أيضا في تشكيل لجنة السينما الفلسطينية بالتعاون مع الأبحاث الفلسطيني وكان نتاج التجربة السينمائية مشاركتهم في مهرجان السينما الفلسطينية في بغداد حيث حقق الفيلم الذي شاركوا به نجاحا كبيرا وفاز بالميدالية الذهبية وجائزة مالية كبيرة.
ساهم أبو نضال في تأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينين, الذي نجح في عقد مؤتمره الأول عام 1972, وتولى رئاسة فرع لبنان منذ عام 1974 إلى مابعد 1982 ويعلق على رئاسته تلك بإنه استطاع وقتها جعل الاتحاد مستقلاً في عمله وقراراته بحيث لا يكون تابعاً لجهة ما تتحكم به.
أصدر أبو نضال عدد من الكتب والدراسات والكراسات في شتى صنوف الأدب والنقد والسياسية والفكر منها منفردا ومنها بالتشارك مع مؤلفين آخرين . ومن بعض إصدارته مثلا, الشعر الفلسطيني,جدل الشعروالثورة, أدب السجون,مواجهات سياسية , الثقافة والديمقراطية ..ألخ.
ومن المشاركات مع آخرين, مناقشات حول الثورة الفلسطينية, ذكريات مع الشهيد كمال ناصر, أبو سلمى زيتونة فلسطين .. وغيرها الكثير
حط الرحال وركن حقائب التعب
“أتلفت حولي لا أرى أحدا…

ورفاق دربي قد غدو بددا
وقد تساوت العواصم والخيل
وبات من يرى كمثل من به رمدا..
فشددت الرحال إلى عمان
وقد ضيعت من إستشهد ومن ضحى ومن شهدا”
بهذه الكلمات الموجعة عاد نزيه أبو نضال إلى عمانه حيث تشكل أول الوعي .. تطول سيرته التي استمرت في مجال العمل والعطاء الأدبي والثقافي , عضو رابطة الكتاب الأردنيين ومدير عام الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب, مسؤولاً ومحرراً ومعداً في عدد من المواقع , التلفزيون الإذاعة الأردنية , وزارة الثقافة , مجلة تايكي وعدد من الصحف , منتجاً للإبداع ,كحدائق الأنثى , تمرد الأنثى دراسات نظرية وتطبيقية في الإبداع النسوي , الكتابة الساخرة, القصة القصيرة الأردنية.
كما حصد عدد من الجوائز والتكريمات سواء من باب الثناء على جهودة كجائزة غالب هلسة للإبداع الثقافي أو جوائز ذهبية وفضية وبرونزية حصدتها برامج أعدها، وكان مسؤولا عنها في مهرجانات إذاعية وتلفزيونية عربية.
مازل نزيه أبو نضال دفاقاً كشلال ترفده مصادر لا تنضب, ينثر الحبر في كف القمر ويزرع الأمل في طلته علينا كل صباح من عالم السوشيال ميديا .
وهكذا قال…
“فهل من طفل طالع قد تبرعم بالندى.. يمضي للأمام واثقا بما وجد” ..

انشر على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *