السلايد شو مقالات

موسم الهجرة الى الانسان

*عبدالله بني عيسى

كنت في طفولتي المتأخرة، في “الاعدادية” وإلى حد ما “الثانوية”، أحتفظ بمخزون وافر من المفردات الخشبية والمحنطة، أخلعها على كل شأن، صغيراً كان أم كبيراً، خاصاً أو عاماً، متأثراً بخليط صنعته بيئة محافظة اجتماعيا وثقافياً، جعلت كل قول أو أمرٍ لدي مسنود بنص أو أمر أو توجيه، أسير بلا تردد خلف من سبقت خُطاهُ خطاي، فأنطق برأي غيري، وأتشدد لفتاوي جاهزة، مهما كانت إقصائية ومتطرفة. في السياسة، والحياة الاجتماعية والاسرية والمعيشية. مواقفي بين الأبيض والأسود، ينسحب ذلك حتى على المشاعر والغرائز الإنسانية، فالضحك “قلة هيبة” والحب “ميوعة”، والاختلاط مفسدة، وسلعةٌ غربية يُراد بها إبعاد “شباب الأمة عن دينهم، وإلهائهم عن العبادة، بمغريات الحياة الزائلة الزائفة” والهدف من ذلك (كما كنا نردد): “لينقض الغرب اللعين المتآمر على أوطاننا ويدمرها حتى لا يعود الدين عزيزا قويا مهابا”.هذا بعض ما كنت ألقي به على مسامع زملائي في المدرسة في خطابات صباحية حماسية نارية. ثم طويت سنينا من العمر كنت فيها بلا ملامح، وطفقت في الكون باحثاً عني. لأجده هناك، في مكان قصي، لا يشبه ذلك المكان ولا الزمان، ظننت في بداية الأمر أنني صرت إلى غربة سحيقة، قبل أن اكتشف بأنني أغادر الغربة إلى رحابة أوطان تورق بيني وبين نفسي وروحي وقلبي.فهمت أن الحياة ملونة، وأنها بلا قيمة إن لم يكن تاجها الحب والتسامح والتعاطف والقبول. وصرت أشرّع للضوء نوافذ قلبي، وأشم رائحة الياسمين، وأختبر لون زهر اللوز “وأكثر”.. صرتُ أحلمُ كالأطفال، وأحب “الحياة ما استطعتُ إليها سبيلا” . وفهمت أن كل ثانية لا تكون فيها الروح متأهبة لالتقاط جمال الكون والبشر، خسارة جسيمة. وفهمت أن العمر أقصر مما نظن إن أحصيناه بالسنين، وطويل مثل نخلة باسقة تزهو بثمارها حين تتدلى بتواضع وتهبنا من عسلها ولونها إن منحناها في كل يوم وفي كل ساعة، ضوءاً وطعماً وشكلا ولوناً جديدا.ً.تعلمت أن أحدق بوجوه الناس، وأختبر المسافات الضئيلة بيننا وبينهم في المواجع والأحلام والمباهج، وتعلمت أن ثمة امرأة كولومبية، تستيقظ صباحا لتعد لأطفالها الطعام وتمنحهم من دفئها، وتحصّنهم بالابتهالات قبل ذهابهم إلى المدرسة، تماما كما تفعل الرمثاوية والكركية والنجدية. تعلمت أن الوجع الانساني واحد في كل مكان، وأن الشمس وحدها كفيلة بطرد العفن. وتوقفَ هديرُ الفكرة الصاخبة القاتلة. واكتشفت أن ليس كل “آخر” عدو، وأن لا أحد يتربص بي إلا شرور نفسي، وأن الكون يتسع لكل المحبين، وأن العبور نحو الضفة الاخرى، لا يكون برباط خيل نرهبهم بها، بل بأيدي تتشابك لتقيم للإنسانية طقوساً ملونةً، وتمسح الحزن عن أوجاعنا الصغيرة. ووددت لو أعطي لطفل نام في العراء بحي هندي فقير جناحين ليطير بعيداً، ولفقير صومالي ينتظر موتا يخلصه من ألم الذل، يداً ينهض بها ويصمد ويقاوم، ولكهل برازيلي نسي أن يقبل وجه حبيبته ذات صبا، وهجا يرمم تجاعيد الذاكرة، ويجعله ينتظر غدا، أجمل وأكثر دفئا، ولشابٍ في بلادي أضناه ضيق الحال خريطة طريق للنجاة بجسده وروحه إلى فضاء الكون الرحب، وأودعه هذا السرّ: قبل أن تبحث عن بلاد تهاجر إليها لتمنحك السعادة، هاجر إلى نفسك اولاً ونقّها من أدرانها وعتماتها، ثم طُف بها الكون مُحباً لكل البشر.

101You, Anwar Nemr, Basil Alrafaih and 98 others41 comments3 shares

Love

LoveCommentShare

انشر على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *