السلايد شو مقالات

الإسلام السياسي والواقع العربي الحالي

عزمي موسى
قد تكون أية قراءة موضوعية للواقع العربي في الوقت الراهن امراً في غاية الصعوبة والتعقيد , نظراً للمنحنيات المتعددة التي اتخذها مساره في العقد الأخير , وبشكل خاص مع انتشار ظاهرة الفوضى والنزاعات المسلحة في أكثر من مكان , أضافه إلى تهافت التحالف الطبقي العربي المهيمن بأتجاه مزيد من التبعية والتطبيع مع الكيان الصهيوني . مما يوحي بان حالة التغيرات والتحولات داخل المشهد العربي القائم سوف تستمر لفترة من الزمن , قبل أن تستقر على شكل محدد وواضح المعالم .
فالمهام والتحديات التي تواجه حركة التغير الاجتماعي كبيرة ومتشعبة وفق تشعب توجهات ومصالح القوى السياسية المحلية والإقليمية والدولية النافذة . فالدول الاستعمارية الرأسمالية , التي كانت قد رتبت أوضاعها في المنطقة ومنذ ما يزيد عن قرن من الزمان على قاعدة التبعية والهيمنة المباشرة أو من خلال وكلائها المحليين . سرعان ما بدأت بعد انفجار حركة الاحتجاجات الشعبية العربية الواسعة , تعيد رسم خرائطها من جديد , وصور تدخلها في صياغة المشهد العربي القادم . وذلك بأساليب سياسية وضغوط اقتصادية مباشرة في مصر وتونس , أو بالعودة إلى استخدام القوة العسكرية في ليبيا , أو بطرق غير مباشرة , عبر حلفائها الإقليميين ( قطر والسعودية ودولة الامارات ) الذين تولوا تنفيذ سياستها, كما هو جاري في سوريا واليمن والسودان .
لقد كشف الربيع العربي عن مدى عمق الأزمة البنيوية المزمنة والمستجدة , وعن التداخل العضوي بين مكوناتها , وسعة انتشارها في المجتمعات العربية . كما انه أزاح الغطاء عن مخزون هائل من التناقضات الداخلية الحادة , وعن غياب أولويات الصراع عند العديد من القوى السياسية , خاصة تلك القوى التي ما زالت محكومة بمرجعيات فكرية ماضوية ما قبل المدنية , وبعقلية قدرية أقصائية منغلقة على الذات وتنكر الأخر . هذه العقلية التي فعلت فعلها ورسخت مفاهيم وقيم غير حضارية , واشاعت ثقافة الخنوع والتوسل والتسول .
فالوحدة لاجتماعية و حالة الاستقرار الداخلي والتعايش السلمي , القائمة قبل الربيع العربي , كانت شكلية سطحية , ليس لها جذور ولا تعكس البنية الحقيقية الهشة للمجتمع العربي . بل كانت قائمة بفعل قوة الاستبداد الأمني والقمعي للأنظمة الديكتاتورية . مما يؤكد حقيقة ان المجتمعات العربية , ما زالت تعيش علاقات إنتاج تتداخل فيها عدة أنماط إنتاجية . إقطاعية وشبة برجوازية , ما قبل رأسمالية .هذا التداخل المضطرب في العلاقات الاجتماعية والسياسية الذي أفرزته علاقات إنتاج شبه برجوازية . الى جانب غياب الرؤيا العلمية للواقع وعدم وضوح الأهداف السياسية المستقبلية , عند قطاعات اجتماعية واسعة . الأمر الذي أربك الوعي العام ومزقه , ورفع منسوب الإحساس بالإحباط واليأس والشعور بتعويم الهوية بين ما هو وطني وقومي وما هو ديني . كما رفع من وتيرة الشعور بالخوف على الوجود والمصير , ومن الشك في جدوى التغير والتبديل . كل هذه العوامل المادية , أنتجت حالة التباس ومغالطات في آليات التفكير والتحليل لتفسير هذه الظاهرة الاجتماعية العربية . خاصة بعد التدخل العسكري الغربي المباشر في ليبيا , والغير مباشر في سوريا والغزو السعودي للبحرين واعلان الحرب على اليمن . لذا فقد تعددت المفاهيم والتصورات , وتباينت الآراء حول هذا الحدث ( ثورات , انتفاضات , أم هي مجرد فوضى عامة ) , واختلفت المقاييس والمعايير ( وطنية ديمقراطية أم ديكتاتوريات جديدة ) .
هذا الواقع المضطرب أثار العديد من الأسئلة المتنوعة والمفتوحة على كل الاتجاهات . والمتناسلة بالتوازي مع اتساع دائرة الحدث وتنوع القوى المؤثرة فيه . فهل يمكن اعتبار ما يجري , ثوره حقيقية تتقاطع مع الماضي طلبا للمستقبل الذي تنشده قطاعات واسعة من الجماهير . يبدأ من خلال إعادة بناء الذات في حاضرها على أساس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الشاملة . أسوة بباقي شعوب الأرض التي سبقتنا في هذا المجال . بعد ان خرجنا من التاريخ عشرات السنين , واضعنا على أنفسنا القرن العشرين , القرن الاستثنائي في تاريخ البشرية ؟ أم هي حالة من إعادة إنتاج التخلف وتابيده في واقعنا , عبر المزيد من تمزيق الذات وتشرذمها على أسس طائفية وقبلية وإقليمية , من خلال زجها في صراعات تصفوية لانهائية , تدمر المجتمع وتصب في خدمة المشروع الصهيوني الأمريكي , والذي لطالما سعى الى تحقيقه وفرضه على شعوب المنطقة , تحت عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان , والدعوات المتكررة لشرق أوسط جديد أو الى الفوضى البنائه . حسب سياسة أليبراليين الجدد في أمريكا ؟ 
هذا الحدث الاجتماعي الكبير , الذي هز بعنف شديد بنية المجتمع العربي , حتى كادت ان تنهار . والوعي الاجتماعي العام , الذي اخذ يتخبط في ضحالة الفكر والمرجعيات , محاولا تفسيره وأدراكة . لا يمكن فهمه وتحليله بشكل علمي ومنطقي بمعزل عن قوانين الجدلية التاريخية , التي تحمل في ذاتها آليات الفهم العلمي للإحداث الاجتماعية الكبرى . لذلك وبغض النظر عن شكل الصراع الدائر واتجاهاته , فهو بدون شك صراع إرادات تقوده الكتلة التاريخية الثورية , صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير مع قوى التخلف التقليدية . المسؤلة عن عدم تطور وتقدم الشعوب العربية . هذه القوى التي نشطت في الدفاع عن ذاتها , مستخدمة كافة قواها السياسية والفكرية وعلاقاتها العضوية الداخلية والدولية التاريخية مع النظام الرأسمالي المعولم . بما في ذلك إثارة وتعزيز عناصر الكراهية بين مكونات البنية الاجتماعية الواحدة . بهدف حرف الصراع الطبقي عن مساره الطبيعي , وتجويفه لكي يصبح صراع طائفي , قبلي , وإقليمي . ووفق الشروط العينية الخاصة بكل بلد . لقد عملت علية واستثمرته قوى الشد العكسي , في قمع وتفكيك الثورات قبل ان تتجذر وتبني أطرها السياسية الخاصة بها . حيث تم تسويق الصراع السياسي في البحرين على أساس انه صراع طائفي . وفي الأردن على أساس انه صراع إقليمي يستهدف بنية وهوية الدولة الأردنية . وفي اليمن على اعتبار أنه صراع قبلي .
لكن الواقع يخالف ذلك , وعلى النقيض مما يتم الترويج له . فالحقيقة التي لا يمكن القفز عنها تؤكد , ان ما يجري في الشارع العربي من انتفاضات وحراكات جماهيرية واسعة . ما هي في الواقع إلا لحظة انفجار الصراع الطبقي على السطح . فالجماهير التي انتفضت بدافع الفقر والقمع وفقدان الكرامة , مطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعي الشاملة . هي جموع الفقراء والكادحين والمهمشين وأصحاب الدخل المحدود . انتفضت في وجه سلطة اليمين السياسي والمالي , القائمة على الظلم والاستبداد ولا تتغذى إلا على الفساد . فهي إذن ثورات وطنية ديمقراطية ذات طابع برجوازي في شكلها . يروليتارية يسارية في مضمونها الاجتماعي . تستند على الكتلة التاريخية الواسعة , رافعة التغير والنهوض الاجتماعي . فمفهوم الظاهرة يستوعبها في هذا الإطار المبني . على ان ما يحدد مضمون أية حركة اجتماعية تحررية , تسعى الى تغير ما هو قائم . هو بعدها الطبقي والأهداف التي تسعى الى تحقيقها ومن ثم موقفها وموقعها من القوى الاستعمارية والنظام الرأسمالي العالمي .
ولأنها ثورات حقيقية . فقد تداعت عليها قوى محلية وإقليمية ودولية بهدف قطع الطريق عليها قبل تجذرها وتغير توجهها الاجتماعي . لذا فقد أرادت قواها المضادة ومن أعتلى موجتها وبالتحالف مع قوى إقليمية رجعية ودولية استعمارية . ان تكون حركة إصلاحية اقل من ثوريه في مصر وتونس والسودان , وأنكروا وجودها في البحرين , وفوضى دمويه في سوريا وليبيا.
والعراق واليمن .
فالثورات يمكن ان تكون جماهيرية عفوية تسبق القوى السياسية والحزبية , أو منظمة تحت قيادة سياسية محددة . وعلية فلا يجوز إسقاط هذا المفهوم ( ثورة ) عن الثورات العربية , لكونها عفوية تفتقد الى البنية الهيكلية والقيادة الجماهيرية . ولان الثورات العربية هي عفوية ذات طابع شعبي واسع , فمن الطبيعي ان تكون القوى السياسية الأكبر تنظيما والأكثر انتشارا في المجتمع , هي الأقدر على مسايرتها واعتلاء موجتها . وهذا بالطبع ما كان لقوى الإسلام السياسي . في ظل غياب وتراجع القوى اليسارية والقومية , وضعف بنيتها التنظيمية , وابتعادها عن الجماهير وعن منطق التحليل العلمي لمدى عمق الصراع الطبقي المتقد تحت سطح المجتمع العربي . حتى بدا للبعض وكأن الربيع العربي , هو ربيع الإسلام السياسي 
من هنا , بات السؤال الأكثر إلحاحا وانتشارا يتمحور حول دور ومستقبل الحركات الدينية السياسي ؟ , وحول مدى ارتباطها بالقوى الرجعية الإقليمية والرأسمالية العالمية ؟ . والى أي مدى يمكن ان تكون بديلا حقيقيا عن الأنظمة الاستبدادية الفاسدة ؟ . خاصة وان الجميع يدرك بان هذه الحركات لم تكن البادئة في إشعال الانتفاضات الشعبية , بل كانت اللاحقة بها , بعد ان شعرت بان المناخ أصبح ملائما لكي تستحوذ على السلطة وتنفرد بها . برغم هذا ظلت مشاركتها في البداية جزئية وشكلية , إعلامية أكثر مما هي عليه على أرض الواقع .
انطلاقا من الدروس المستوحاة من التجارب الثورية الأممية , ومن القوانين المادية العلمية التي تؤكد على ان لكل فعل ردة فعل يعاكسه . فأن لكل ثورة اجتماعية قوى مضادة تعاكسها , وأخرى تسايرها بمقدار ما تحقق من خلالها مصالحها الفئوية الضيقة ثم تتخلى عنها . فهذه القوى لا تتحدد بذاتها ولا بقيادتها ولا بمعزل عن الصراع الطبقي . بل تتحدد بوضعها ودورها في عملية الصراع من اجل تثبيت هيمنة طبقة قائمة , أو من اجل فرض هيمنة طبقة نقيضه . 
وفق ذلك , تشير كل الدلائل الموضوعية , الى انه لا يمكن اعتبار حركات الإسلام السياسي المتعددة والمتنوعة , النقيض الحقيقي للنظم الاستبدادية والأمنية . ليس فقط لأنها لا تحمل برامج سياسية واقتصادية تسعى من خلالها الى تحرير العلاقات الاقتصادية , ونظام الإنتاج من حالة التخلف والتبعية . بل لأنها في معادلة الصراع الطبقي , هي طرف من إطراف السلطة الطبقية القائمة على الفصل السياسي والاجتماعي , والتزاوج بين السلطة وشريحة رجال المال والإعمال , في مواجهة الطبقات الفقيرة والمهمشة .
فإذا كانت البرجوازية المالية المحلية , قد بنت ذاتها وعززت قوتها وقدرتها على قاعدة الفساد والنهب المتواصل لقدرات وطاقات الطبقات الفقيرة . فأن حركات الإسلام السياسي التي تملك ثروات مالية وقدرات تنظيمية هائلة , نتيجة التوظيف المالي في شتى المجالات , ومواصلة تراكم فائض القيمة .و كذلك أثر التحالف التاريخي مع قوى التخلف والرجعية العربية في منطقة الخليج , ومع النظام الرأسمالي الاستعماري . حيث كانت احد أهم أدواته السياسية والعسكرية باسم المقدس في أفغانستان والبلقان والعراق وفي سوريا الآن . إضافة الى دورها في مواجهة القوى اليسارية والقومية إثناء الحرب الباردة . فهذه الحركات الدينية أيضا , قد استغلت ومنذ البداية , حالة البؤس واليأس عند الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تم إفقارها . في سبيل تحقيق مصالحها الفئوية الضيقة من جانب , ولعزل هذه الطبقات عن قواها الحقيقية الوطنية واليسارية , وكبح وحدتها الاجتماعية من جانب أخر . وذلك من خلال تبنيها للعديد من البرامج التمويلية العينية , تحت عناوين متعددة . والتي لا تسمن ولا تغني من جوع .بل تهدف بواسطتها الى تأبيد حالة الفقر , وإدامة هذا القطاع الاجتماعي الواسع تحت ضغط الحاجة المستمرة .
هذه السياسة الاستغلالية لحالة تردي الأوضاع الاجتماعية , الاستعلائية باسم المقدس الديني . وفرت لهذه القوى قاعدة شعبية , بين جموع المهمشين والمحتاجين . وخزان صوتي هائل . لا يترجم حقيقة التوازنات الاجتماعية القائمة , تلجئ إلية كلما استدعتها الضرورة . فبالطبع لا يمكن اعتبار ان هذه القاعدة الشعبية والصوتية متوافقة ومتفقة كليا مع برامج وسياسات , تم أختزالها في شعار ميتافيزيقي فضفاض ( الإسلام هو الحل ) , أمتزج فيه ما هو ديني مع ما هو ذاتي فئوي بهدف كسب تأيد هذه الجموع الشعبية . التي فقدت ثقتها بالقوى القومية التي وصلت الى السلطة في بعض البلدان العربية . وبالقوى اليسارية الكلاسيكية التي ترددت ولم تتقدم بشكل جدي لتتحمل مسؤولياتها التاريخية . حتى استقر بها المقام على هامش وإطراف الحركة الاجتماعية .
وبالتالي فان حركات الإسلام السياسي هي في حالة تناقض مع جوهر الدين في بعده الاجتماعي كقيمة معيارية أخلاقية مرتبطة بالمجتمعات الطبقية , تحرص على تحقيق التوازن العادل بين الطبقات الاجتماعية المتصارعة . فالمعايير والقيم تتبدل وتتغير بالتوازي مع حركة المجتمع وتقدمه مع ثبات جوهرها الإنساني .
ان ما يوحد السلطة السياسية القمعية والمعارضات الإسلامية , ومنذ البداية , بالإضافة الى العجز وانسداد الأفق وغياب الرؤية الموضوعية والتأرجح السياسي . هو ان كلاهما ينهلان من مراجع فكرية واحدة , تقليدية يمينية محافظة . ترفض التغير والحداثة , ولا تستجيب لحاجات المجتمع المتواصلة . كما إنهما ينتسبان الى فلسفة سياسية واقتصادية , تقدس الملكية الفردية , وتؤمن بمركزة رأس المال وبنهج التبعية الرأسمالية على حساب الفئات الشعبية الواسعة . كذلك ينطلقان من برامج وتطبيقات متشابهة ,قائمة على مصادرة الحريات والآراء العامة باسم المقدس , وعلى تسخيف وتسطيح استقلال وسيادة الأوطان , عبر إغراقها في مستنقع علاقات السيطرة والنهب والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي , عبر الاعتماد المتزايد على المساعدات والقروض الغربية بشروطها السياسية المعروفة , والخضوع لأملاءات صندوق النقد الدولي . إضافة الى انتهاج سياسات متطابقة في إطار العلاقات الدولية .
كل هذه الحقائق الموضوعية , أكدتها التجربة وبشكل واضح في مصر وتونس ونظام البشير السوداني وفي العديد من البلدان التي وصل فيها الإسلاميون الى السلطة .
في هذا الإطار , يمكن إدراك وتحليل الإحداث الجارية في المنطقة , واستيعاب مغزى الاستفراد بالسلطة , واليات عمل الإسلاميين المتعددة , والتي لا تنتهي بقمع وتقيد الحريات الفكرية والثقافية ,( تقديم رموز ثقافيه وفنية للمحاكم في مصر) . بل تمتد لتصل الى التهديدات والتصفيات الجسدية كما جرى للمفكر شكري بلعيد في تونس وغيره.
تؤكد كل هذه المعطيات المادية المتصلة بالحركات الدينية منذ نشأتها والى الآن , بان هذه القوى لا يمكن ان تكون البديل الحقيقي والعملي للأنظمة السياسية الاستبدادية , ليس فقط في العالم العربي . بل وفي أي مكان أخر في هذا العالم بغض النظر عن ماهية الديانة
Azmi.musa@hotmail.com

انشر على :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *